لما لا نفكر مثلهم؟

في عالمنا المعاصر، تُطرح الكثير من الأفكار حول كيفية التفكير والتعامل مع التحديات اليومية، وما بين الثقافات المختلفة، ووجهات النظر المتنوعة، يظهر جلياً أن هناك طرقاً متعددة للتفكير تختلف من مجتمع لآخر، ومن فرد لآخر. لكن، لماذا لا نفكر مثلهم؟ هذه العبارة تحمل في طياتها استفساراً عميقاً حول أسباب اختلاف طريقة التفكير، وكيف يمكننا أن نقترب من تلك الأساليب التي نعتبرها متفوقة أو أكثر نضجاً، سواء أكان هؤلاء “هم” أفراداً أو شعوباً أو فئات معينة.

مفهوم التفكير وأهميته

التفكير هو عملية ذهنية معقدة يقوم بها العقل البشري لتحليل المعلومات، وترتيب الأفكار، واتخاذ القرارات، وحل المشكلات. هو جوهر الإبداع والابتكار، وهو المحرك الأساسي لتطور الفرد والمجتمع. ولأن التفكير لا يأتي في قالب واحد، بل يتنوع حسب الخلفيات الثقافية والاجتماعية والتعليمية، فإنه من الطبيعي أن يكون هناك اختلاف في طرق التفكير بين الناس.

فالتفكير ليس مجرد تفاعل عشوائي للأفكار، بل هو نظام متكامل يعتمد على مجموعة من المعارف، القيم، المعتقدات، والخبرات السابقة التي يختزنها الإنسان خلال حياته. لذلك، يتأثر نمط التفكير بكل هذه العوامل التي تشكل طريقة رؤيته للعالم من حوله.

أسباب اختلاف طريقة التفكير

يمكن حصر أسباب اختلاف طريقة التفكير بين الناس أو المجتمعات في عدة نقاط رئيسية:

1. الخلفية الثقافية والاجتماعية

تلعب الثقافة دوراً محورياً في تشكيل طريقة التفكير. الثقافة هي مجموعة من القيم والعادات والتقاليد التي يتعلمها الفرد منذ طفولته، وتعمل على تشكيل منظوره للعالم. على سبيل المثال، المجتمعات التي تركز على الجماعة والقيم الاجتماعية المشتركة تميل إلى التفكير الجماعي والتعاوني، بينما المجتمعات التي تركز على الفردية قد تشجع التفكير النقدي المستقل واتخاذ القرارات الشخصية.

2. التعليم ونظام المعرفة

نظام التعليم والمناهج التي يدرسها الأفراد تحدد إلى حد كبير كيفية معالجة المعلومات والتفكير المنطقي. إذا كان التعليم يعتمد على الحفظ والتلقين، فإنه يولد تفكيراً تقليدياً جامداً، أما إذا كان التعليم يركز على النقد والتحليل وحل المشكلات، فإنه يشجع التفكير الإبداعي والنقدي.

3. البيئة المحيطة والخبرات الحياتية

البيئة التي يعيش فيها الإنسان تؤثر بشكل مباشر على طريقة تفكيره. من يعيش في بيئة محفزة تدعم النقاش والحوار وتقبل الاختلاف يكون أكثر قدرة على تبني أفكار جديدة وطرق تفكير متنوعة. أما من يعيش في بيئة قمعية أو محافظة جداً، فقد يتبنى نمط تفكير محافظاً وغير متجدد.

4. الشخصية والصفات النفسية

للفرد دور في طريقة تفكيره، فالصفات النفسية مثل الانفتاح على التجارب، والمرونة، والفضول تلعب دوراً في مدى قدرة الإنسان على التفكير بطرق مختلفة وغير نمطية. بينما قد يحد التمسك بالروتين والتردد والخوف من التغيير من إمكانية تطوير التفكير.

كيف نفكر “مثلهم”؟

عندما نقول “نفكر مثلهم” في هذا السياق، فإننا نشير إلى رغبة في تبني طريقة تفكير تعتبر أكثر تطوراً، أكثر نضجاً، أو أكثر نجاحاً في التعامل مع الواقع. ولكن، ما هي الخطوات التي يمكن اتباعها لتحقيق هذا التحول في طريقة التفكير؟

1. التعلم المستمر والتوسع المعرفي

التفكير كالبناء يحتاج إلى مواد خام من المعرفة والمعلومات. كلما زاد رصيد الإنسان المعرفي، زادت قدرته على التفكير النقدي والتحليلي. لذلك، من الضروري الانفتاح على مصادر المعرفة المختلفة، قراءة الكتب، الاطلاع على الدراسات العلمية، متابعة الأخبار والثقافات الأخرى.

2. تبني النقد الذاتي والقدرة على مراجعة الأفكار

التفكير الناضج لا يعني قبول كل الأفكار دون تمحيص، بل يعني القدرة على مراجعة ما نعتقده، وفحص مدى صحة الأفكار ومدى ملاءمتها للواقع. النقد الذاتي هو أحد أهم مفاتيح التفكير المتقدم، فهو يدفع الإنسان لتطوير نفسه باستمرار.

3. الانفتاح على وجهات نظر مختلفة

عدم الانغلاق على رأي واحد أو ثقافة واحدة يوسع آفاق التفكير، ويمنح الإنسان القدرة على رؤية الأشياء من زوايا متعددة. الاستماع إلى آراء الآخرين، الاطلاع على ثقافات وخبرات مختلفة، كلها عوامل تساعد على تحسين طريقة التفكير.

4. ممارسة التفكير التحليلي والمنطقي

الابتعاد عن العواطف والمشاعر السطحية في الحكم على الأمور، والتركيز على الوقائع والبراهين والمنطق، يجعل التفكير أكثر دقة وموضوعية. التدريب المستمر على تحليل المعلومات، وحل المشكلات بطريقة منهجية يساعد على تطوير هذا الجانب.

5. تطوير مهارات حل المشكلات والابتكار

التفكير المتقدم هو تفكير إنتاجي يبحث عن حلول جديدة، ويخلق أفكاراً مبتكرة. لذلك، ينبغي تنمية مهارات الابتكار والتفكير خارج الصندوق، من خلال المحاولة والتجربة، وعدم الخوف من الفشل.

الفوارق بين التفكير الفردي والجماعي

التفكير مثلهم قد يختلف حسب البيئة التي يُطبق فيها، فالتفكير الجماعي في كثير من الثقافات هو الطريقة المثلى لحل المشكلات واتخاذ القرارات، حيث يجمع بين خبرات وآراء متعددة. بينما في بعض المجتمعات الأخرى يفضل التفكير الفردي المستقل، مما قد يساهم في اتخاذ قرارات أسرع وأكثر شخصية.

التحدي الحقيقي هو كيف ندمج بين التفكير الفردي والجماعي لنصل إلى أفضل النتائج، وكيف نختار الطريقة التي تناسب طبيعة المشكلة أو الموقف.

تأثير التكنولوجيا ووسائل التواصل الحديثة على التفكير

لا يمكن الحديث عن التفكير في العصر الحديث دون النظر إلى تأثير التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي. فقد غيّرت هذه الأدوات من طبيعة جمع المعلومات وتبادل الأفكار بشكل جذري. أصبح بالإمكان الاطلاع على آلاف المصادر خلال دقائق، ومناقشة الأفكار مع أشخاص من جميع أنحاء العالم.

لكن، في المقابل، تسببت هذه الثورة الرقمية في انتشار الأخبار الزائفة والمعلومات المغلوطة التي تؤثر سلباً على جودة التفكير. لذلك، أصبح التفكير النقدي والتمحيص أكثر أهمية من أي وقت مضى.

نموذج التفكير عند الشعوب المتقدمة

الشعوب التي تُعتبر متقدمة في مجالات العلم، الاقتصاد، والسياسة، تتميز بأن طرق تفكيرها تعتمد على أسس منهجية واضحة. فهي تستثمر في التعليم، تحفز على البحث العلمي، تشجع على حرية التعبير، وتوفر بيئة حرة لتبادل الأفكار. من خلال هذه العوامل، استطاعت هذه الشعوب بناء مجتمعات قائمة على الابتكار، الإنتاجية، والتنمية المستدامة.

إن التفكير في هذه المجتمعات لا يقتصر على حل مشكلة واحدة، بل يمتد إلى التفكير المستقبلي، وإيجاد حلول تدعم التطور الدائم. وهذا هو الفرق الجوهري الذي يجعلنا نسأل “لماذا لا نفكر مثلهم؟” فالتفكير مثلهم هو نتيجة لظروف متكاملة من الدعم الثقافي، التعليمي، والاجتماعي.

خطوات عملية لتبني نمط تفكير متقدم

من أجل تحقيق قفزة نوعية في طريقة التفكير، يمكن الاعتماد على خطوات عملية تشمل:

• القراءة النقدية: الاطلاع على كتب ومقالات متنوعة مع التركيز على تحليلات عميقة، بعيداً عن السطحية.

• التدريب على الحوار البناء: الانخراط في نقاشات عقلانية تهدف إلى تبادل الأفكار وتطويرها بدلاً من إثبات الذات.

• الممارسة العملية: تطبيق ما تعلمناه في الحياة اليومية سواء في العمل أو العلاقات الاجتماعية.

• تقييم النتائج: مراجعة نتائج التفكير والقرارات السابقة لتعلم الدروس وتجنب الأخطاء المستقبلية.

• استخدام التكنولوجيا بذكاء: استغلال المصادر الرقمية للتعلم والبحث مع الحذر من التضليل الإعلامي.

الجدول التالي يوضح الفرق بين نمط التفكير التقليدي ونمط التفكير المتقدم:

الخاتمة

التفكير بطريقة متقدمة أو التفكير “مثلهم” ليس حكراً على أحد، بل هو مهارة يمكن تنميتها وتطويرها عبر التعلم والممارسة. ينطوي هذا على تغيير جذري في نظرتنا للعالم، وتبني قيم جديدة مثل الانفتاح، النقد الذاتي، والإبداع. إن الفارق بيننا وبين من نفكر فيهم كقدوة في التفكير ليس في الذكاء أو القدرات الفطرية، بل في المنظومة التي تحيط بهم وتدعمهم للتفكير بطريقة أكثر منهجية وفعالية.

ولذلك، لا يجب أن نكتفي بالسؤال عن “لماذا لا نفكر مثلهم؟” بل يجب أن نخطو خطوات حقيقية عملية لتطوير طرق تفكيرنا، والاستفادة من تجارب الآخرين مع المحافظة على هويتنا وثقافتنا، ليكون تفكيرنا ناضجاً، مبدعاً، وفاعلاً في بناء مستقبل أفضل.